الإنسان الطيب
العيد عند أطفال هذه العزبة له معنى واحد
انهم عدد لا يزيد على ثلاثين طفلا لعائلات قليلة أربابها من عمال الزراعة , والعزبة في مجموعها لا تزيد على مائتين من السكان تقع في حضن ترعة كبيرة في ظلال النخل وأشجار التوت, أهلها مثل أسرة واحدة ؛ فارتفاع صراخ بين جدران منازلها لا يعني إلا موت أحد لأنهم لا يتشاجرون ولا يتناحرون .
لكن العيد عند أطفالهم له معنى واحد ... معنى أن يستيقظوا صباح العيد فيجد كل طفل لعبة عند أمه جاءت بالليل وهو نائم , جاء بها رجل يسافر الى المدينة من أجل هذه الأشياء , ويفتح كل طفل عينه المخدرة بالنوم فيرى مع نور الصباح وصياح الديكة وروائح الأفران لعبة جديدة تتجمع على ألوانها الزاهية أبهة الفرحة ورونق الدنيا كلها .
وعندما يحتضن الأطفال لعبهم يذكرون اسم هذا الرجل الذي قدمها هدية لهم في صورة خاطفة لكنها عميقة , تهل على قلوبهم مرتين في العام ولا تمس قلوبهم الا لمدة ما يمس النسيم أوراق الورد , لكن رائحة شذية منها تتعطر بها النفس الإنسانية , وأخذت الأعياد تتوالى والعادة لا تتغير ..
وأخذ الرجال والنساء في القرية ينظرون الى هذا العمل نظرة لا فرق بينها وبين نظرة الأطفال , أصبحت لتكرارها شيئا عاديا جدا مثل ظهور ثمار التوت عندهم , أو فيضان الترعة الكبيرة التي تقع عزبتهم في حضنها .
لكن الرجل الذي أخذ على نفسه أن يعمل هذا العمل لم يفقد لذته مطلقا ؛ بل كان مع دخول كل عيد يشم روائح عمله كما يشم روائح الحصاد , ويتفنن ليجدد ويتصور عمل الفرحة في القلوب الغضة التي تجري باللعب على تراب محدثة ضجيجا له رائحة الحياة .
ويتصور _ وهو الذي لا أولاد له _ أن هؤلاء جميعا أولاده يرقبهم من احدى النوافذ فيراهم على الطريق أو مماشي الحقول مثل كلمات حلوة , كأنها وعد من الله بالخير والبركات لهذه الأرض , وربما دمعت عيناه لهذا المنظر لكن قلبه كان في حقيقة أمره مليئا بالرضا والهدوء ..
**************************************
كل طفل يكبر من أولاد هذه العزبة تتحول اللعبة التي كانت تشترى من أجله _ تتحول الى طفل آخر .
لكن كثيرا من الأطفال الذين كبروا أو تجاوزوا سن اللعب بمثل هذه الأشياء كانوا ينظرون اليها وهي في أيدي أطفال غيرهم نظرة مليئة باللذة والتأمل . فهم يرون أنفسهم أطفالا , وهم يذكرون هذا العمل بالحب والتقدير ويتمنون لو استطاعوا ان يقدموا لمن يعمله شيئا ما .
لكن نظرات كثير من الناس كانت تلمس هذا الرجل وهو سائر ودون أن يحس , تلمسه في كل عيد لمسة اأنها كف تربت على ظهره أو كتفه , ولم يكن هو يشعر بها ؛ وربما كان هناك كثير من الذين تجاوزوا سن اللعب يتمنون أن يفعلوا مثله يوما ما .
***************************************
وغير هؤلاء كان في العزبة ناس قادرون لم يخطر على بالهم أن يفعلوا مثل هذا , ذلك لأن محور اللذة يختلف من روح الى روح . فلم يكونوا قادرين على تصور مدى السعادة التي تلمس القلب حين ينجح في طبع ابتسامة على فم محروم خصوصا اذا ما كان طفلا ؛ لأن الكبار من الناس قادرون على الاقتناع بالحرمان لقدرتهم على فحص أسبابه , أما الأطفال فعالمهم ملئ بكل ممكن , عالمهم من خيالهم .. من صنعهم وحدهم لا يشاركهم فيه أحد , لذلك فإن اقتناعهم بالمستحيل .. أول مستحيل .
وكان القادرون الذين لا يفعلون مثل فعل هذا الرجل يعزون عمله هذا الى أنه محرومرمن الأولاد , فهو يتصور ويتلذذ ولو كان أمره غير هذا ما فعل هذا .
ولم تكن هذه الأفكار تعنيه , فقد كان منغمسا في أفكاره مثل انغماس غيره في أفكارهم .
وكل عيد يقدم يدخل الفرحة على قلوب كثير من هؤلاء الذين يملئون أرض العزبة فرحا ومرحا وكأنهم يعبرون عن فرحة العالم كله.
***************************************
لكنه بعد حين من الزمن رأى الذين كانوا لا يؤمنون بفكرته شيئا غريبا .. شيئا جعلهم يفكرون من جديد .
ففي يوم عيد آن لهذا الرجل أن يغيب عن الدنيا ، مات قبل العيد بيوم واحد ولم يفطن أحد من الكبار الى ما سيحدث يوم العيد ، يوم لا يجد غير القادرين من الأطفال لعبة تخطف أبصارهم وتثير مرحهم .
وشغل أهل العزبة بهذا الحديث ؛ لكن هذا الحدث لم يمنع صباح العيد من المجيئ .
وخرج كثير من الأطفال بلا لعب ، وذهب كثير منهم من الذين لا يدركون مغزى الحادث يسألون عن الرجل في داره .
أما القادرون فكانوا يهربون بلعبهم في مكان بعيد فلم يجدوا للعيد طعما .
ولأول مرة في هذه العزبة ظهر العيد بلا بهجة ، كأن فرحته كامنة في قلوب الأطفال الذين لا يجدون ما يفرحهم .
.ويومئذ أدرك الكبار من الناس مغزى هذا العمل الذي كان يفعله ذلك الإنسان الطيب
*********
قصة / محمد عبد الحليم عبد الله