Monday 30 July 2007

الإنسان الطيب

العيد عند أطفال هذه العزبة له معنى واحد
انهم عدد لا يزيد على ثلاثين طفلا لعائلات قليلة أربابها من عمال الزراعة , والعزبة في مجموعها لا تزيد على مائتين من السكان تقع في حضن ترعة كبيرة في ظلال النخل وأشجار التوت, أهلها مثل أسرة واحدة ؛ فارتفاع صراخ بين جدران منازلها لا يعني إلا موت أحد لأنهم لا يتشاجرون ولا يتناحرون .
لكن العيد عند أطفالهم له معنى واحد ... معنى أن يستيقظوا صباح العيد فيجد كل طفل لعبة عند أمه جاءت بالليل وهو نائم , جاء بها رجل يسافر الى المدينة من أجل هذه الأشياء , ويفتح كل طفل عينه المخدرة بالنوم فيرى مع نور الصباح وصياح الديكة وروائح الأفران لعبة جديدة تتجمع على ألوانها الزاهية أبهة الفرحة ورونق الدنيا كلها .
وعندما يحتضن الأطفال لعبهم يذكرون اسم هذا الرجل الذي قدمها هدية لهم في صورة خاطفة لكنها عميقة , تهل على قلوبهم مرتين في العام ولا تمس قلوبهم الا لمدة ما يمس النسيم أوراق الورد , لكن رائحة شذية منها تتعطر بها النفس الإنسانية , وأخذت الأعياد تتوالى والعادة لا تتغير ..
وأخذ الرجال والنساء في القرية ينظرون الى هذا العمل نظرة لا فرق بينها وبين نظرة الأطفال , أصبحت لتكرارها شيئا عاديا جدا مثل ظهور ثمار التوت عندهم , أو فيضان الترعة الكبيرة التي تقع عزبتهم في حضنها .
لكن الرجل الذي أخذ على نفسه أن يعمل هذا العمل لم يفقد لذته مطلقا ؛ بل كان مع دخول كل عيد يشم روائح عمله كما يشم روائح الحصاد , ويتفنن ليجدد ويتصور عمل الفرحة في القلوب الغضة التي تجري باللعب على تراب محدثة ضجيجا له رائحة الحياة .
ويتصور _ وهو الذي لا أولاد له _ أن هؤلاء جميعا أولاده يرقبهم من احدى النوافذ فيراهم على الطريق أو مماشي الحقول مثل كلمات حلوة , كأنها وعد من الله بالخير والبركات لهذه الأرض , وربما دمعت عيناه لهذا المنظر لكن قلبه كان في حقيقة أمره مليئا بالرضا والهدوء ..
**************************************
كل طفل يكبر من أولاد هذه العزبة تتحول اللعبة التي كانت تشترى من أجله _ تتحول الى طفل آخر .
لكن كثيرا من الأطفال الذين كبروا أو تجاوزوا سن اللعب بمثل هذه الأشياء كانوا ينظرون اليها وهي في أيدي أطفال غيرهم نظرة مليئة باللذة والتأمل . فهم يرون أنفسهم أطفالا , وهم يذكرون هذا العمل بالحب والتقدير ويتمنون لو استطاعوا ان يقدموا لمن يعمله شيئا ما .
لكن نظرات كثير من الناس كانت تلمس هذا الرجل وهو سائر ودون أن يحس , تلمسه في كل عيد لمسة اأنها كف تربت على ظهره أو كتفه , ولم يكن هو يشعر بها ؛ وربما كان هناك كثير من الذين تجاوزوا سن اللعب يتمنون أن يفعلوا مثله يوما ما .
***************************************
وغير هؤلاء كان في العزبة ناس قادرون لم يخطر على بالهم أن يفعلوا مثل هذا , ذلك لأن محور اللذة يختلف من روح الى روح . فلم يكونوا قادرين على تصور مدى السعادة التي تلمس القلب حين ينجح في طبع ابتسامة على فم محروم خصوصا اذا ما كان طفلا ؛ لأن الكبار من الناس قادرون على الاقتناع بالحرمان لقدرتهم على فحص أسبابه , أما الأطفال فعالمهم ملئ بكل ممكن , عالمهم من خيالهم .. من صنعهم وحدهم لا يشاركهم فيه أحد , لذلك فإن اقتناعهم بالمستحيل .. أول مستحيل .
وكان القادرون الذين لا يفعلون مثل فعل هذا الرجل يعزون عمله هذا الى أنه محرومرمن الأولاد , فهو يتصور ويتلذذ ولو كان أمره غير هذا ما فعل هذا .
ولم تكن هذه الأفكار تعنيه , فقد كان منغمسا في أفكاره مثل انغماس غيره في أفكارهم .
وكل عيد يقدم يدخل الفرحة على قلوب كثير من هؤلاء الذين يملئون أرض العزبة فرحا ومرحا وكأنهم يعبرون عن فرحة العالم كله.
***************************************
لكنه بعد حين من الزمن رأى الذين كانوا لا يؤمنون بفكرته شيئا غريبا .. شيئا جعلهم يفكرون من جديد .
ففي يوم عيد آن لهذا الرجل أن يغيب عن الدنيا ، مات قبل العيد بيوم واحد ولم يفطن أحد من الكبار الى ما سيحدث يوم العيد ، يوم لا يجد غير القادرين من الأطفال لعبة تخطف أبصارهم وتثير مرحهم .
وشغل أهل العزبة بهذا الحديث ؛ لكن هذا الحدث لم يمنع صباح العيد من المجيئ .
وخرج كثير من الأطفال بلا لعب ، وذهب كثير منهم من الذين لا يدركون مغزى الحادث يسألون عن الرجل في داره .
أما القادرون فكانوا يهربون بلعبهم في مكان بعيد فلم يجدوا للعيد طعما .
ولأول مرة في هذه العزبة ظهر العيد بلا بهجة ، كأن فرحته كامنة في قلوب الأطفال الذين لا يجدون ما يفرحهم .
.ويومئذ أدرك الكبار من الناس مغزى هذا العمل الذي كان يفعله ذلك الإنسان الطيب
*********
قصة / محمد عبد الحليم عبد الله

8 comments:

ما علينا said...

السلام عليكم

ازيك يا ملامح
عودا حميدا

بصراحة مش عارفة اعلق اقولك ايه
اول سطر قرأته قلت ملامح كانت مسافرة بلد في الريف وهتحكي التجربة
لكن اول ما قرأت جزئية نوم الاطفال واستيقاظهم والعابهم بجوارهم

قلت الكلام دا انا قراته قبل ذلك
وبضعة اسطر اخرى
وتيقنت اني بين طيات رائعة لمحمد عبد الحليم عبد الله

انا من عشاق كتاباته بكل ما فيها من مآآسيها ورقتها

مش عارفة هل هو توارد خواطر
ولا مجرد الصدفة
لكن صدفة عجيبة

انا النهاردة الصبح راكبة الميكروباص
وسرحانة مع نفسي
وعمالة افتكر الحاجات اللي قريتها من مدة

وكان اول تذكرت هي رواياته
وتعليقي انا وصديقاتي عليها دايما
انه لازم يقتل البطلة او يموتها

قلت لنفسي انا ما قريتلوش من زمان

سعيدة جدا جدا
انك اتحتي لي اني التقي باقصوصة من اقاصيصه
برغم قرائتي لها قبل ذلك

ومرة اخرى عودا حميدا
وبلاش الغياب الطويل دا

**mlame7** said...

ما علينا

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اهلا يا جميله ازيك

فعلا القصه دي رائعة
انا كل ما اقرأها باحسها ان اول مرة أقرأها.
________________

سعيدة جدا جدا
انك اتحتي لي اني التقي باقصوصة من اقاصيصه
برغم قرائتي لها قبل ذلك

وأنا أسعد بسعادتك

أبوسويلم said...

انا ارى ان المغزى فى القصة فى رؤية ذلك الرجل السعادة فى اعين الاطفال وهى دعوة الى نيل هذا الشرف ومعايشة هذة السعادة
لكن بالتأكيد هناك من سيأتى ليكمل دور هذا الرجل بعد مماته وهو ما اعتقد ان الكاتب اغفله عن قصد او ربما عن غير قصد
القصة جميلة واختيارك موفق
وعود حميد على رأى جميلة

ما علينا said...

ملامح
بطلي بخل وغياب بقى

المرة دي انا جاية وجايبة لك معايا
تاج
تعالي خديه

شفتي يعني جايبلك البوست لحد عندك
بطلي بخل بقى

monzer said...

سلام
كل سنة وأنت طيبة
جميل أن يصور الإنسان بالقلم تلك الفرحة التى قد تكون الآن تاريخا قد ولى أو أصبحت ذكرى فى التاريخ فقد اختفت تلك المظاهر الجميلة من حياتنا لا أدرى لماذا المهم فرحة العيد التى قد نطالعها فى وجه طفل برئ هى أجمل شىء فى الكون

أبوسويلم said...

ده انت غيبتك طولت اوى
ايه يا ستى
مش تسألى ولو مرة
ارجو الله ان تكونى بخير وسعادة
والسلام

Anonymous said...

Hello. This post is likeable, and your blog is very interesting, congratulations :-). I will add in my blogroll =). If possible gives a last there on my blog, it is about the Smartphone, I hope you enjoy. The address is http://smartphone-brasil.blogspot.com. A hug.

Anonymous said...

بجد قصه جميلخه جدا
الواحد بيتمتع وهوه بيقراها